23 May 2025

الوجوه المنسية : عندما كان المغاربة حجارةً في بناء أوروبا ودماءً في حروبها

Édité par notre Bénévole Lhoucine BENLAIL Directeur Officiel Diplomaticnews.net

بقلم الحسين بنلعايل – ديبلوماتيك نيوز

في زمنٍ غابر، حين كانت أوروبا تعيد بناء نفسها من رماد الحربين العالميتين، وتشق طريقها نحو النهضة الصناعية، وقف آلاف المغاربة خلف تلك المعجزة كعمالٍ صامتين. كانت أياديهم الخشنة تُحرك عجلة الاقتصاد البلجيكي، ودماؤهم تسيل على جبهات القتال الأوروبية قبل ذلك بعقود. هذه قصة جيلين من المغاربة: أولئك الذين حفروا في مقالع الفحم حتى أضاءوا مدن أوروبا، وآباؤهم وأجدادهم الذين حملوا البنادق في حروب لم تكن حروبهم، ثم طواها النسيان.

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقّع المغرب اتفاقيات مع بلجيكا وهولندا وألمانيا لاستقدام العمالة المغربية. كانت أوروبا تعاني نقصاً حاداً في الأيدي العاملة بعد الحرب العالمية الثانية، بينما كان المغرب يعاني من بطالة وفقر دفعت آلاف الشباب إلى ركوب القوارب نحو المجهول. لم يكن أحد ليخبرهم أنهم سيقضون حياتهم في ظلام المناجم، بين غبار السيليكا وأصوات المطارق. في بلجيكا وحدها، عمل أكثر من 80 ألف مغربي في المقالع والمناجم، مات المئات منهم تحت الأنقاض، أو اختناقاً بأبخرة الفحم، أو بسرطان الرئة بعد سنوات من العمل الشاق. كانت أجسادهم وقوداً للنهضة البلجيكية، لكن أسماءهم لم تُنقش على أي نصب تذكاري.

قبل ذلك بخمسة عقود، وتحديداً عام 1914، كان المغاربة قد دخلوا أوروبا من باب آخر: الباب العسكري. فقد جندت فرنسا الآلاف من الجنود المغاربة في صفوف “الكوم” (Les Goumiers) للقتال في الحرب العالمية الأولى. هؤلاء الرجال، الذين جاؤوا من جبال الأطلس وقرى الريف، وجدوا أنفسهم في خنادق فرنسا وبلجيكا، يواجهون الموت في معارك مثل “فردان” و”السوم”. بحسب الأرشيفات العسكرية الفرنسية، قُتل أو فُقد أكثر من 12 ألف جندي مغربي بين 1914 و1918، بينما نجا البعض وعادوا إلى المغرب حاملين معهم إعاقات دائمة وذاكرة مليئة بالرعب. لكن التاريخ الأوروبي لم يذكرهم إلا كحاشية في سرديات بطولاته الوطنية.

اليوم، بينما تحتفي أوروبا بمسارها التنموي وتُخلد أبطالها، تبقى مساهمات المغاربة في تلك المسيرة غائبةً عن السرد الرسمي. فالمعامل التي شيدوها بالعرق، والفحم الذي استخرجوه من باطن الأرض، والدماء التي أريقت في حروب الاستعمار، كلها تحولت إلى مجرد أرقام في ملفات الأرشيف. حتى في المغرب نفسه، لم ينل هؤلاء الرواد التكريم المستحق، فظلت قصصهم حبيسة الذاكرة الشفوية لأبنائهم وأحفادهم.

ربما حان الوقت لكي تُفتح هذه الصفحات من التاريخ من جديد، ليس بدافع التمجيد، بل بدافع الإنصاف. فالأوروبيون مدينون لهؤلاء الرجال بجزء من رخائهم، والمغاربة مدينون لهم بتذكير الأجيال الجديدة بأن التضحيات لا تُقاس بالحدود الجغرافية، بل بقيمة الإنسانية المشتركة التي صنعوها بعرقهم ودمائهم.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *